الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)} يقول الحق جل جلاله: {يسألونك عن} قسمة {الأنفالِ} وهي الغنائم، سميت الغنيمة نفلاً لأنها عطية من الله تعالى، وزيادة فضل، كما يسمى ما يشترط الإمام للشجاع المقتحم خطراً، نفلاً؛ لأنه عطية له زيادة على سهمه، وكما سمى يعقوب عليه السلام نافلة؛ لأنه عطية زائدة على ولد إبراهيم عليه السلام، حيث كان حفيده، ثم أجابهم الحق تعالى فقال: {قل الأنفال لله والرسول} أي: أَمرها إلى الله ورسوله، يقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يأمره الله تعالى، وفي الوضع الذي يعينه له. وسبب نزولها: اختلاف المسلمين في غنائم بدر كيف تقسم، هل في المهاجرين لفقرهم، أو في الأنصار لنصرهم، أو فيهما معاً. قال ابن جزي: وذلك أنهم كانوا يوم بدر ثلاث فرق: فرقة مع النبي صلى الله عليه وسلم في العريش تحرسه وتؤنسه، وفرقة اتبعوا المشركين فقتلوهم وأسروهم، وفرقة أحاطوا بأسلاب العدو وعسكرهم لما انهزموا، فلما انجلت الحرب واجتمع الناس، ورأت كل فرقة أنها بالغنيمة من غيرها، اختلفوا فيما بينهم. فنزلت الآية. ه. وقيل: شرط رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن كان له غناء أن ينفله، فتسارع شبابهم حتى قتلوا سبعين وأسروا سبعين، ثم طلبوا نفلهم، وكان المال قليلاً، فقال الشيخ والوجوه الذين كانوا عند الرايات: كنا رداءاً لكم، وفئة تنحازون إلينا، فلا تختصوا بشيء دوننا، فنزلت، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم على السواء. ولهذا قيل: لا يلزم الإمام الوفاء بما وعد، وهذا قول الشافعي رضي الله عنه. وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: لمّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قُتل أَخي عُمَيْرٌ، وقتلتُ سَعِيدَ بْنَ العَاصِ، وأخذتُ سَيْفَهُ وأتيتُ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستوهبته منه، فقال: «لَيْسَ هَذَا لِي، ولكن ضَعهُ في القَبض». فَطَرحْتُهُ، وفي قلبي مَا لا يَعْلَمُهُ إِلا الله من قَتَلِ أَخِي وأَخْذِ سَلَبي، فَمَا جَاوَزْتُها إلا قليلاً حتى نزلت سُورَةُ الأَنْفَال، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «سَأَلَتنِي السَّيف ولَيْس لِي، وإِنّهُ قد صَارَ لِي فاذْهَبْ فَخُذْهُ». {فاتقوا الله} في المشاجرة والاختلاف، {وأَصلحوا ذات بينكم} أي أصلحوا الحال التي بينكم بالمواساة والمواددة وسلامة الصدور، ولمساعدة فيما رزقكم الله، وتسليم أمره إلى الله تعالى ورسوله، {وأطيعوا الله ورسوله} فيما يأمركم به {إن كنتم مؤمنين}؛ فإن الإيمان يقتضي الاستماع والاتباع، أو إن كنتم كاملي الإيمان؛ فإن كمال الإيمان يقتضي التمسك بهذه الخصال الثلاث: امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، وإصلاح ذات البين بالعدل والإحسان. ثم ذكر شروط كمال الإيمان، فقال: {إنما المؤمنون} الكاملون في الإيمان: {الذين إذا ذُكر الله وَجَلتْ قلوبُهم}؛ خافت واقشعرت لذكره؛ استعظاماً له وهيبة من جلاله، وقيل: هو الرجل يهم بالمعصية فقال له اتق الله، فينزع عنها خوفاً من عقابه، {وإِذا تُلِيت عليهم آياته} القرآنية {زادتهم إيماناً} أي: يقيناً وطمأنينة بتظاهر الأدلة التي اشتملت عليها، أو بالعمل بموجبها. وهو دليل على أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، بناء على أن العمل داخل فيه، والتحقيق: أن العمل خارج عنه، لكن نوره يتقوى به وينقص بنقصانه أو بالمعصية وسيأتي في الإشارة الكلام عليه. ومن أوصاف أهل الإيمان: التوكل على الله والاعتماد عليه، كما قال: {وعلى ربهم يتوكلون} وقد تقدم في «آل عمران» الكلام على التوكل، ثم وصفهم بإقامة الدين فقال: {الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} في الواجب والتطوع. {أولئك هم المؤمنون حقاً}؛ لأنهم حققوا إيمانهم بأن ضموا إليه مكارم أعمال القلب، من الخشية والإخلاص والتوكل، ومحاسن أعمال الجوارح التي هي العِيار عليها، كالصلاة والصدقة، {لهم درجات عند ربهم} أي كرامات وعلو منزلة، أو درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم، {ومغفرة} لما فرط من ذنوبهم، {ورزقٌ كريم} أعده لهم في الجنة، لا ينقطع مدده، ولا ينتهي أمده، بمحض الفضل والكرم. الإشارة: الانفال الحقيقة هي المواهب التي ترد على القلوب، من حضرة الغيوب؛ من العلوم اللدنية والأسرار الربانية، لا تزال تتوالى على القلوب، حتى تغيب عما سوى المحبوب، فيستغني غناء لا فقر معه أبداً، وهذه غنائم خصوص الخصوص، وغنائم الخصوص: هي القرب من الحبيب، ومراقبة الرقيب، بكمال الطاعة والجد والاجتهاد، وهذه غنائم العباد والزهاد، وغنائم عوام أهل اليمين: مغفرة الذنوب، والستر على العيوب، والنجاة من النار، ومرافقة الأبرار، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ قَالَ عِندَ نَوْمِهِ: أسْتَغْفِر اللِّه َالعَظِيمَ الذي لا إله إلاّ هُوَ الحَيُّ القَيّومَ وَأَتُوبُ إِليْهِ، غَفَرَ الله ذُنُوبَهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَد البَحَرِ، وعَدَدَ أَيَّامِ الدُّنْيَا». قال الشيخ زروق: وهذه هي الغنيمة الباردة، وهذه الأمور بيد الله وبواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معنى قوله {قل الأنفال لله والرسول} ثم دل على موجباتها فقال: {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم...} الآية، وقوله تعالى: {زادتهم إيماناً}: اعْلم أن الإيمان على ثلاثة أقسام: إيمان لا يزيد ولا ينقص وهو إيمان الملائكة، وإيمان يزيد وينقص، وهو إيمان عامة المسلمين، وإيمان يزيد ولا ينقص وهو إيمان الأنبياء والرسل، ومن كان على قدمهم من العارفين الروحانيين الراسخين في علم اليقين، ومن تعلق بهم من المريدين السائرين، بالطاعة والمعصية؛ لتيقظهم وكمال توحيدهم، وفي الحكم: «وربما قضى عليك بالذنب فكان سبب الوصول» وقال أيضاً: «معصية أورثت ذلاً وافتقاراً خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً» والله تعالى أعلم.
{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)} قلت: {كما أخرجك} خبر عن مبتدأ محذوف، أي: هذه الحال، وهي عزلهم عن تولية الأَنفال في كراهتهم لها، كحال إخراجك في الحرب في كراهتهم لها، أو حالهم في كراهية ما رأيت من تنفيلك للغزاة، مثل حالهم في كراهية خروجك، أو صفة لمصدر الفعل المقدر في قوله: {لله والرسول} أي: الأنفال تثبت لله وللرسول صلى الله عليه وسلم، مع كراهتهم، ثباتاً مثل ثبات إخراجك ربُّك من بيتك، يعني المدينة؛ لأنها مسكنه أو بيته منها، وجملة: {وإن فريقاً} حال مِن أخرجك، أي: أخرجك في حال كراهية فريق من المؤمنين. يقول الحق جل جلاله لنبيه صلى الله عليه وسلم: قد كره أصحابُك قسمتك للأنفال كما كرهوا إخراجك {ربُّك من بيتك بالحق} لقتال العدو، والحال أن {فريقاً من المؤمنين لكارهون} خروجك لذلك، وتلك الكراهية من قِبل النفس وطبع البشرية، لا من قِبل الإنكار في قلوبهم لأمر الله ورسوله، فإنهم راضون مستسلمون، غير أن الطبع ينزع لِحَظَّه، والعبد مأمور بمخالفته وجهاده. وذلك الفريق الذي كره خروجك للقتال {يُجادلونك في الحق} أي: يخاصمونك في إيثارك الجهاد لإظهار الحق، حيث أرادوا الرجوع للمدينة، وقالوا: إنا لم نخرج لقتال، قالوا ذلك {بعد ما تَبَيّن} لهم أنهم منصرون أينما توجهوا، بإعلام الرسول لهم، لكن الطبع البشري ينزع إلى مواطن السلامة {كأنما يُساقون إلى الموت وهم ينظرون} أي: يكرهون القتال كراهة من يُساق إلى الموت، وهو يشاهد أسبابه، وكان ذلك لقلة عددهم وعدم تأهبهم، إذ رُوي أنهم كانوا رجّالة، وما كان فيهم إلا فارسان، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخرج لقصد الجهاد، وإنما لملاقاة عير قُرَيْش، لمّا سمع أنها قدمت من الشّام، وفيها تجارةٌ عَظيِمةٌ، ومعها أربعُون رَاكباً، فيهم أَبُو سُفْيان، وعمرو بنُ العاص، ومخرفة بن نوفل، وعمروبن هِشَام، فأراد رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يتعرض لها ويأخذها غنيمة، حيث أخبره جبريلُ بقدومها من الشام، فأخبرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المسلمين، فأعْجَبَهُم تلقيها، لكثرةِ المال وقلةِ الرجالِ، فلما خرجُوا، بَلَغ الخبرُ أبا سفيان، فسلك بالعير طريق السَاحِل، واستأجر من يذهب إلى مكة يستنفرها، فلما بلغهم خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم لعيرهم، نادى أبو جهل فوق الكعبة: يا أهل مكة، النَّجَاء، النجاء على كل صَعْبٍ وذَلُولٍ، عِيرُكُمْ وأَمْوالكم إن أصَابَهَا مُحَمَّدٌ لن تُفْلِحُوا بعدها أبداً. وقد رأت، قبل ذلك بثلاث ليال، عاتكةُ بنت المطلب، رؤيا؛ وهو أن رجلاً تمثل على جبل قبيس فنادى: يا آل لكع، اخرجوا إلى مصارعكم، ثم تمثل على الكعبة، فنادى مثل ذلك، ثم أخذ حجراً فضرب به، فلم يبق بيت في مكة إلا دخلة شيء من ذلك الحجر، فحدثت بها العباس، وبلغ ذلك أبا جهل، فقال: أما ترضى رجالهم أن يتنبؤوا حتى تتنبأ نساؤهم؟ لنتربص ثلاثاً، فإن لم يظهر ما تقول لنكتبن عليكم يا بني هاشم أنكم أكذب بيت في العرب، فلما مضت ثلاث ليال جاء رسولُ أبي سفيان ليستنفرهم. فخرج أبو جهل بجموع أهل مكة، ومضى بهم إلى بدر، وهو ماء كانت العرب تجتمع عليه لسوقهم يوماً في السنة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي ذَفِران، فنزل عليه جبريل بالوعد بإحدى الطائفتين: إما العيرُ وإما قُرَيْش، فاستشار فيه أصحابه، فقال بعضهم: ما خرجنا لقتال ولا تهيأنا له، وردد عليهم وقال: إن العير قد مضت على ساحل البحر، وهذا أبو جهل قد أقبل، فقالوا: يا رسول الله، عَلَيكَ بالعيرِ ودَع العَدو، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام أبو بكر وعُمَرُ فأحْسَنَا، ثم قام سَعْدُ بن عُبادة فقال: انظرُ في أمْرِكَ، وامْضِ، فواللَّهِ لَو سِرْتَ إلى عَدَنٍ ما تَخَلَفَ رجلٌ مِنْ الأنْصارِ، ثم قام المقِدَادُ بنُ عَمْرٍو فقال: امْضِ يا رسول الله لما أمرك ربك، فإنا معك حيثما أحببتَ، لا نقولُ كما قالت بنو إسرائيل: {فَاذهَب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَتِلاَ إِنَّا هَهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]، ولكن اذهب أنت وربك فقاتِلاَ إنا معكُما مقاتلونَ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أشيروا عَلَيَّ أيّها الناسُ»، يريدُ الأنصار؛ لأنهم كانوا عددهم، وقد شرطوا حين بايعوه بالعقبة أنهم بُرءاء من ذمامه حتى يصل إلى ديارهم، فتخوف ألاّ يروا نصرته إلا على عدو دهمه بالمدينة، فقام سَعْدُ بنُ معَاٍذ وقال: لَكأنَّكَ تُرِيدُنَا يا رسولِ الله؟ فقال: أجَلْ، فقال: قد آمنّا بِك وصَدَّقْنَاكَ، وشهدنا أن ما جئْتَ بِهِ هو الحقُّ فأعطَيْنَاكَ على ذلِك عُهُودَنَا ومَوَاثِيقَنَا على السَّمْعِ والطَّاعّةِ، فامْضِ يا رَسُولَ اللهِ لما أرْدتَ، فوالذي بَعَثَكَ بالْحق لو اسْتَعْرَضت بنا هذا البَحْرَ فخُضته لخضْنَاهُ مَعَكَ، ما تَخَلَّفَ مِنّا رَجُلٌ واحِدٌ، وما نَكرَهُ أن تَلقِي بِنَا عَدُوِّنَا، وإنا لَصُبُرٌ عِندَ الحَربِ، صُدُقٌ عندَ الِّلقَاءِ، ولعَلَّ اللَّهَ يُريكَ منا ما تقرُّ بِه عينُكَ، فَسِرْ بنا على بَركَةِ اللهِ، فنشطه قوله، ثم قال: «سِيرُواعَلَى بَركَةِ الله، وأبْشِرُوا؛ فِإنَّ الله قد وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائفَتَينِ، واللهِ لكأنّي أنْظرُ إلى مَصارع القَوْم». ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بأصحابه آخر مياه من مياه بدر، فَبُني له هناك عريش، فجلس فيه هو وأبو بكر، فلما انتشب القتال أخذ قبضة من تراب فرمى بها وجوه القوم، وقال: شاهت الوجوه، فلم تبق عين من الكفار إلا وقع فيها شيء منها، ونزلت الملائكة في العنان، أي: السماء، فقتل منهم سبعون، وأُسر سبعون، وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من غزوة بدر، قيل له: عليك بالعير، فقال العباس وقد أعطاك ما وعدك، فكره بعضهم قوله، ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة منصوراً فرحاً مسروراً، وقد أنجزه الله ما وعده. الإشارة: من حكمته تعالى الجارية في عبادة أن كل ما يثقل على النفوس ويشق عليها في بدايته تكون عاقبته الفتح والنصر، والهناء والسرور، فكل ما تكرهه النفوس فغايته حضرة القدوس، وما تحقق سير السائرين إلا بمحاربة نفوسهم ومخالفة عوائدهم. وفي الحديث عنه صلىلله عليه وسلم، قال لابن عباس في حديث طويل: «وَفِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْر كَثِير» والله تعالى أعلم.
{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)} قلت: {وإذ}: ظرف لاذكر، محذوفة، و{أنها لكم}: بدل اشتمال من {إحدى الطائفتين}؛ والشوكة: الحدة، مستعارة من واحد الشوك، وسميت الحرب شوكة لحدة سلاحها. يقول الحق جل جلاله: {و} اذكروا {إذ يعدكم الله إحدى الطائفتين}؛ قريشاً أو عِيرهَم، وعدكم {أنها لكم وتَودون}؛ وتتمنون {أنَّ غير ذات الشوكة} أي: ذات الحرب {تكونُ لكم} وهي العير، فإنها لم يكن فيها إلا أربعون رجلاً، وتكرهون ملاقاة النفير لكثرة عَدَدِهِمِْ وعُددهم، {ويريد الله أن يُحق الحق} أي: يظهر الحق، وهو الإسلام، بقتل الكفار وهلاكهم في تلك الغزوة، {بكلماته} أي: بإظهار كلماته العليا، أو بكلماته التي أوحى بها في هذه الحال، أو بأوامره للملائكة بالأمداد، أو بنفود كلماته الصادقة بهلاكهم، {ويقطع دابر الكافرين} أي: يستأصلهم ويقطع شوكتهم. ومعنى الآية: أنكم تُريدون أن تُصيبوا مالاً ولا تلقوا مكروهاً، والله يريد إعلاء الدين وإظهار الحق، وما يحصل لكم من فوز الدارين، وإنما فعل ما فعل من سوقكم إلى القتال؛ {ليُحق الحق ويُبطل الباطل} أي: ليُظهر الدين ويبطل الكفر. قال البيضاوي: وليس بتكرار؛ لأن الأول لبيان المراد، وما بينه وبين مرادهم من التفاوت، والثاني لبيان الداعي إلى حمل الرسول صلى الله عليه وسلم على اختيار ذات الشوكة وقصره عليها. ه. وقال ابن جزي: ليس تكرار للأول؛ لأن الأول مفعول يريد، هذا تعليل لفعل الله تعالى، ويحتمل أن يريد بالحق الأول الوعد بالنصرة، وبالحق الثاني الإسلام، فيكون المعنى: أنه نصرهم ليظهر الإسلام، ويؤيد هذا قوله: {ويُبطل الباطل} أي: يُبطل الكفر، {ولو كره المجرمون} ذلك، فإن الله لا بد أن يظهر دينه على الدين كله، ولو كره الكافرون. الإشارة: وعد الله المتوجهين إليه بالوصول إلى سر الخصوصية، وهي الولاية، لكن بعد المجاهدة والمحاربة للنفوس؛ لأن الحضرة لا يدخلها إلا أهل التهذيب والتدريب، وترى كثيراً من الناس يتمنون أن تكون لهم من غير حرب ولا قتال، ويريد الله أن يحق الحق بكشف الحجب عن القلوب، حتى لا يشاهدوا إلا الحق، ويُبطل الباطل، وهو السَّوي، ولا يكون في العادة إلا بعد موت النفوس وتهذيبها وتطهيرها بالرياضة على شيخ عارف. قال الششتري مترجماً عن لسان الحقيقة: أن تُرِدْ وَصْلَنَا فَمَوْتكَ شَرْطٌ *** لا يَنَالُ الوِصَالَ مَنْ فِيهِ فَضْلَه
{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)} قلت: {إذ}: بدل من {إذ يعدكم} أو متعلق بقوله: {ليحق الحق} أو باذكر. يقول الحق جلاله: واذكروا حين كنتم {تستغيثون ربكم} وتدعون بالغوث والنصر، وذلك أن الصحابة رضي الله عنهم لمّا علموا ألاّ محيص لهم عن القتال أخذوا يقولون: ربنا انصرنا على عدوك، يا غياث المستغيثين أغثنا. وعن عمر رضي الله عنه: أنه نَظَرَ إلى المُشْرِكِينَ وهُمْ أَلفٌ، وإلى أَصْحَابِهِ وهُمْ ثَلاثُمائةٍ، فاسْتَقْبَلَ القِبْلَةِ ومدَّ يديهِ يدعوه: «اللهم أَنْجِزْ لي ما وَعدْتَنِي، اللهُم إن تَهْلِكْ هذه العصابة لم تُعْبَد في الأرْضِ»، فما زَالَ كَذَلِك َحتى سَقَطَ رِدَاؤُهُ، فقال أَبُو بكر، كَفَاكَ مُنَاشَدَتك رَبَّكَ، فإِنَّهُ سيُنْجِزُ لَكَ ما وَعَدَكَ «. وقد تقدم أن الأنبياء وكبراء الأولياء لا يقفون مع ظاهر الوعد والوعيد لسعة دائرة علمهم، بل لا يزول اضطرارهم، ولا يكون مع غير الله قرارهم، ولعل ذلك الوعد يكون متوقفاً على شروط أخفاها الحق تعالى؛ لتظهر قهريته وانفراده بالعلم المحيط. ولما استغاثوا بالله وأظهروا الحاجة إليه أجابهم فقال: {فاستجاب لكم أني مُمدكم}؛ مقويكم ومكثركم {بأَلْفٍ من الملائكة مُردفين} يتبع بعضهم بعضاً، ويتبع المؤمين، فكانوا خلفهم ردْءاً لهم، فمن قرأ بفتح الدال فهو اسم مفعول، ومن قرأه بالكسر فاسم فاعل، وصح معنى القرءتين، لأن الملائكة المنزلين يتبع بعضهم بعضاً، فمنهم تابعون ومتبوعون، ومن قرأ بالفتح فالمراد مردفين بالمؤمنين، فكانوا مقدمة الجيش، ومن قرأ بالكسر فالمراد مردفين للمؤمنين تابعين لهم، فكانوا ساقة للجيش. ثم ذكر حكمة الإمداد بقوله: {وما جعله الله} أي: الإمداد {إلا بُشرى} أي: بشارة بالنصر، {ولتطمئن به قلوبكم} فيزول ما بها من الوجل لقلتكم، {وما النصر إلا من عند الله}؛ لا يتوقف على سبب، {إن الله عزيز} لا يغلب {حكيم} في تدبير الأسباب وترتيبها رداء للقدرة الأزلية، فإمداد الملائكة، وكثرة العدد، والتأهب، وسائط، لا تأثير لها، فلا تحسبوا النصر منها، ولا تيأسوا منه بفقدها، فحكم الأزل جلّ أن يضاف إلى العلل. الإشارة: إظهار الفاقة الابتهال لا يقدح في صحة التوكل على الكبيرالمتعال، بل هو شرف للإنسان، وتقريب من الكريم المنان، بل من شأن العارف الكامل الرجوع إلى الله في كل شيء، والتعلق به في كل حال، ولو وعده بالنصر أو الإجابة، لا يقطع عنه السؤال، عبوديةً وتملقاً بين يدي الحبيب. وقد اختلف الصوفية: أي الحالين أشرف: هل الدعاء والتضرع؟ أو السكوت والرضى تحت مجاري الأقدار؟ وقال بعضهم: يجب أن يكون العبد صاحب دعاء بلسانه، صاحب رضى بقلبه، ليجمع بين الأمرين. قال القشيري: والأَوْلى أن يُقال: إن الأوقات مختلفة، ففي بعض الأحوال الدعاء أفضلُ، وفي بعض الأحوال السكوت أفضل، وإنما يُعرف ذلك في الوقت؛ لأن علم الوقت يحصل في الوقت، فإذا وجد في قلبه إشارة إلى الدعاء؛ فالدعاء منه أولى، وإذا وجل إشارة إلى السكوت فالسكوت أتم. ه. وقد تقدم في آل عمران إشارة الإمداد. وبالله التوفيق.
{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)} قلت: (إذا) بدل ثان من (إذ يعدكم)، أو متعلق بالنصر، لِمَا في (عند الله) من معنى الفعل، أو بإضمار اذكروا، ومن قرأ بضم الياء، فهو من أغشى، أي: غطى، ومن قرأ بالتشديد، فهو من غشي المضعف، وكلاهما يتعدى إلى مفعولين، الكاف الأول والنعاس الثاني، ومن قرأ بالفتح والتخفيف، فهو من غشى يغشى؛ المتعدي إلى واحد و(وأمنة): مفعول من أجلة. يقول الحق جل جلاله: واذكروا {إذ يُغشيكم}، أي: حين كان يغشيكم {النُعاسَ} وأنتم في القتال، حين ينزل عليكم الأمْن من العدو بعد شدة الخوف، وذلك لأجل الأمن الذي نزل من الله عليكم بعد شدة خوفكم. قال ابن مسعود رضي الله عنه: النعاس عند حضور القتال علامة أَمْنٍ مِنَ العدو. ثم ذكّرهم بمنة أُخرى، فقال: {ويُنزل عليكم من السماء ماء ليُطهركم به} من الحدث والجنابة، {ويُذهب عنكم رجز الشيطان} أي: وسوسته وتخويفه إياهم من العطش، رُوي أنهم نزلوا في كثيب رمل دهس، تسوخ فيه الأقدام على ماء قليل، وناموا فاحتلم أكثرهم، فوسوس إليهم الشيطان، وقال: كيف تُنصرون وأنتم تصلون محدثين مجنبين، وتزعمون أنكم أولياء الله فيكم رسوله؟ فأشفقوا، فأنزل الله المطر، فمُطروا ليلاً حتى جرى الوادي، فاتخذوا الحياض على عدوته، وسقوا الركاب، واغتسلوا وتوضؤوا، وتلبد الرمل الذي بينهم وبين العدو، حتى ثبتت عليه الأقدام وزالت الدهوسة، وهذا معنى قوله: {وليَرِبطَ على قلوبكم ويُثبتَ به الأقدام} أي؛ وليربط على قلوبكم بالوثوق على لطف وزوال ما وسوس إليهم الشيطان، وذهاب الكسل عنها. {ويُثبت به الأقدام} حتى لا تسوخ في الرمل، أو بالربط على القلوب حتى تثبت في مداحض الحرب. واذكروا أيضاً: {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم} أي: أُثبت أقدامكم حين أُوحي إلى الملائكة أني معكم في نصر المؤمنين وتثبيتهم {فثبتوا الذين آمنوا} بتكثير عددهم، أو بالبشارة لهم، أو بمحاربة أعدائهم، على قول من قال: إنهم باشروا القتال. {سأُلقي في قلوب الذين كفروا الرعب} والجزع حتى لا يثبتوا لقتالكم، يحتمل أن يكون من خطاب الله للملائكة، أو استئناف؛ إخباراً للمؤمنين عما يفعله بعدوهم عاجلاً وآجلاً. ثم قال للملائكة أو للمؤمنين: {فاضربوا فوق الأعناق} أي: أعاليها التي هي المذابح والرؤوس، {واضربوا منهم كل بَنَان} أي: أصابعهم، أي: جزوا رقابهم واقطعوا أطرافهم. الإشارة: كان شيخ شيخنا يُشير على الفقراء، إذا كثرت عليهم الخواطر والهواجس، بالنوم، ويقول؛ من تشوش خاطره فليرقد حتى يشبع من النعاس، فإنه يجد قلبه؛ لأن النعاس أمنة من الله يذهب به رجز الشيطان وثقله، ويربط على القلوب في الحضرة؛ لأنه زوال، وإذا زال العبد ظهر الحق وزهق الباطل. وقوله تعالى: {ويُنزل عليكم من السماء ماء}: هو ماء الغيب الذي يطهر القوب من شهود السَّوى، ويذهب به رجز الشيطان، وهي ظلمة الأكوان، التي تنعقد في القلب من حب الهوى الذي هو من تزيين الشيطان، ويثبت به الأقدام، حتى تثبت عند مصادمة أنوار الحضرة، التي هي تجلي الذات، فلا يثبت لها إلا الشجعان والأبطال وأكابر الرجال. والله تعالى أعلم.
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)} قلت: (ذلكم): مبتدأ حُذف خبره، أي: ذلكم العقاب أو العذاب، أو خبر، أي: الأمر ذلكم، أو منصوب بمضمر يفسره فذوقوه، و(الكافرون): عطف على (ذلكم)، أو نصب على المفعول معه، وقرئ بالكسر؛ استئنافاً. يقول الحق جل جلاله: {ذاك} الضرب لأعناق الكفار، أو الأمر به {بأنهم}؛ بسبب أنهم {شاقوا} أي: خالفوا {الله ورسوله}، وصاروا كأنهم في شق وهو في شق؛ مبالغة في المخالفة والمباعدة، {ومن يشاقق الله ورسوله} ويبعد عنهما {فإن الله شديد العقاب} لكم من خالفه أو خالف رسوله، وهو تقرير للتعليل، أو وعيد بما أعد الله لهم في الآخرة بعد ما حاق بهم في الدنيا، {ذلكم} العذاب {فذوقوه} وباشروا مرارته، {وأنَّ للكافرين عذابَ النار}، والمعنى: ذُوقوا ما عجل لكم من النقمة في الدنيا مع ما يحل عليكم في الآخرة من عذاب النار، ووضع الظاهر موضع المضمر؛ للدلالة على أن الكفر سبب العذاب العاجل والآجل. الإشارة: مخالفة الله ورسوله توجب الطرد والبعاد، وموافقة الله ورسوله توجب القربة والوداد، وهذا الموافقة التي توجب للعبد المحبة والوداد تحصل بخمسة أشياء: امتثال أمره، واجتناب نهيه، والإكثار من ذكره، الاستسلام لقهره، والاقتداء بنبيه صلىلله عليه وسلم والتأدب بآدابه، والتخلق بأخلاقه، وبأضداد هذه الأشياء يحصل للعبد المخالفة التي توجب طرده وبُعده، وهي مخالفة أمره، وارتكاب نهيه، والغفلة عن ذكره، والتسخط عند نزول قهره، وعدم الاقتداء بنبيه صلى الله عليه وسلم؛ بارتكاب البدع المحرمة والمكروهة، حتى يُفضى به الحال إلى المشاققة والمباعدة، {ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب} بالله التوفيق.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)} قلت: (زحْفاً): مصدر، وزحف الصبي إذا دب على مقعده قليلاً قيلاً، سمى به الجيش المقابل للقتال؛ لأنه يندفع للقتال شيئاً فشيئاً، ونصبه على الحال من فاعل «لقيتم» أو «من الذين كفروا» و(متحرفاً) و(متحيزاً): حالان، و(إلا) مُلغاة، ووزن متحيز: متفيْعل، لا متفعل، وإلا كان متحوزاً؛ لأنه من حاز يحوز. يقول الحق جل جلاله: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا} زاحفين لهم، تدبون إليهم ويدبون إليكم، تريدون قتالهم متوجهين إليهم، {فلا تُولوهم الأدبارَ} بالانهزام عنهم، فإنه حرام، وهو من الكبائر، ويفيد بألا يكون الكفار أكثر من ثلثي المسلمين، فإن زادوا على ثلثي المسلمين حلَّ الفرار، وأن يكون المسلمون مسلحين، وإلا جاز الفرار ممن هو بالسلاح دونه، {ومن يُولَّهم يومئذ دُبُره إلا متحرفاً لقتالِ}، وهو أن يكرّ راجعاً أمام العدو ليرى عدوه أنه منهزم ثم يعطف عليه، وهو من مكائد الحرب، {أو متحيزاً إلى فئة} أي: منحازاً إلى جماعة من المسلمين ليستعين بهم، فإن كانت الجماعة حاضرة في الحرب، أو قريبة فالتحيز إليها جائز باتفاق، واختلف في التحيز إلى المدينة، والإمام والجماعة إذا لم يكن شيء من ذلك حاضراً. ويُروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: أنا فئة لكل مسلم. ورُوي عن ابن عمر: أنه كان في سرية بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وففَرُّوا إلى المدينة، فقلت: يا رَسُولَ اللَّهِ، نحن الفَرَّارُونَ، فقال: «أًنْتُم الكرَّارُونَ، وأنا فِئَتُكُمْ». فمن فرَّ من الجهاد بالشرط المتقدم {فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنمُ وبئس المصيرُ}، ومن هذا يفهم أنه من الكبائر. قال البيضاوي: وهذا إذا لم يزد العدو على الضعف لقوله {الئَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُم...} [الأنفال: 66] الآية، وقيل: الآية مخصوصة بأهل بيته والحاضرون معه في الحرب. ه. الإشارة: يقول الحق جل جلاله للمتوجهين إليه بالمجاهدة والمكابدة: إذا لقيتم أعداءكم من القواطع؛ كالحظوظ، والشهوات، وسائر العلائق، فاثبتوا حتى تظفروا، ولا ترجعوا وتولوهم الأدبار فيظفروا بكم، إلا متحيزاً لقتال؛ بإيثار بعض الرخص، ليقوى على ما هو أشد منها مشقة عليها، أو متحيزاً إلى جماعة من أكابر العارفين، فإنهم يُغنونه بالمشاهدة عن المجاهدة، إذا ملكهم زمام نفسه، وفعل كل ما يُشيرون به عليه، فإن ذلك يُفضي به إلى الراحة بعد التعب، والمشاهدة بعد المجاهدة، إذا لا تجتمع المجاهدة في الظاهر مع مشاهدة الباطن عند أهل الذوق. قال القشيري بعد كلامه على الآية: فالأقوياء من الأغنياء ينفقون على خَدَمِهم من نعمهم، والأصفياء من الأولياء يُنفقون على مريديهم من هِمَمِهم؛ يجبرون كَسْرَهم وينوبون عنهم، ويساعدونهم بحسن إرشادهم، ومَنْ أهمل مريداً وهو يعرف صِدْقه، أو خالف شيخاً وهو يعرف فضله، وحَقَّه، فقد بَاءَ من الله بسخط، واللّهُ تعالى حسيبُه في مكافأته على ما حصل من قبيح وصفه. ه.
{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)} يقول الحق جل جلاله: فَلَمْ تقتلوا الكفار بحولكم وقوتكم وذلتكم، وقلّة عُدتكم وعدَدكم، وكثرة عدوكم وعُدتهم، {ولكن اللَّه قتلهمْ} بواسطة مباشرتكم، حيث أيدكم وسلطكم عليهم، وإمداد الملائكة لكم، وإلقاء الرعب في قلوب عدوكم. قال البيضاوي: رُوي أنه لما أَطلَّتْ قريش من العقنقل اسم جبل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذِهِ قُرَيْشٌ جَاءَتْ بخُيَلائِهَا وفَخْرِهَا، يُكَذِّبُونَ رَسُولَكَ، اللَّهُمَّ إِنَّي أَسْأَلُكَ مَا وَعَدْتَنِي»، فأَتَاهُ جِبْرِيلُ، وَقَال له: خُذْ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ فارْمِهِمْ بِهَا، فلمَّا التَقَى الجَمعَأن تناول كفّاً من الحَصْبَاءِ فَرَمَى بها في وُجُوهِهِم، وقال: «شَاهَتْ الوُجُوهُ» فَلَمْ يَبق مُشْرِكٌ إلا شُغِلَ بَعَيْنَيْهِ، فانْهَزَمُوا. وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم، ثم لما انصرفوا أقبلوا على التفاخر، فيقول الرجل: قتلتُ وأسرتُ، فنزلت الآية، وإلغاء جواب شرط محذوف، تقديره: إن افتخرتم بقتلهم فلَمْ تقتلوهم، ولكن الله قتلهم، {وما رميتَ} يا محمد رمياً توصها إلى أعينهم. ولم تقدر عليه {إذْ رميتَ} أي: حين ألقيت صورة الرمي، {ولكنَّ الله رَمَى}، أتى بما هو غاية الرمي، فأوصلها إلى أعينهم جميعاً، حتى انهزموا وتمكنتم من قطع دابرهم. ه. فالرمي، حقيقة، إنما وقع من الله تعالى، وإن ظهر حساً من النبي صلى الله عليه وسلم. وإنما فعل ذلك ليقطع طرفاً من الكفار، ويحد شوكتهم، {وليُبلي المؤمنين منه بلاءً حسناً} أي: ليختبر المؤمنين منه اختباراً حسناً، ليظهر شكرهم على هذه النعمة، أو لينعم عليهم نعمة عظيمة؛ بالنصر والغنيمة ومشاهدة الآيات، {إن الله سميع} لاستغاثتهم ودعائهم، {عليم} بنياتهم وأحوالهم. {ذلكم} أي: البلاء الحسن، أو القتل، أو الرمي، واقع لا محالة، أو الأمر ذلكم، {وأن الله موهن كيد الكافرين} أي: مضعف كيد الكافرين، ومبطل حيلهم، أي: المقصود بذلك القتل أو الرمي إبلاء المؤمنين، وتوهين كيد الكافرين وإبطال حيلهم. الإشارة: يقول الحق جل جلاله للمريدين المتوجهين لحضرة محبوبهم: فلَمْ تقتلوا نفوسكم بمجاهدتكم؛ إذ لا طاقة لكم عليها، ولكن الله قتلها بالنصر والتأييد، حتى حييت بمعرفته، ويقول الشيخ: وما رميت القلوب بمحبتي ومعرفتي، ولكن الله رمى تلك القلوب بشيء من ذلك، وإنما أنت واسطة وسبب من الأسباب العادية، لا تأثير لك في شيء من ذلك. حُكي أن الحلاج، لما كان محبوساً للقتل، سأله الشبلي عن المحبة، فقال: الغيبة عما سوى المحبوب، ثم قال: يا شبلي، ألست تقرأ كتاب الله؟ فقال الشبلي: بلى، فقال: قد قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى}، يا شبلي؛ إذ رَمَى اللَّهُ قَلْبَ عبده بِحَبََّةٍ من حُبّه، نادى عليه مدى الأزمان بلسان العتاب. ه. والمقصود بذلك: تخصيص أوليائه المقربين بالمحبة والمعرفة والتمكين، وتوهين كيد الغافلين المنكرين لخصوصية المقربين. والله تعالى أعلم.
{إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)} يقول الحق جل جلاله لكفار مكة على جهة التهكم: {إن تستفتحوا} أي: تطلبوالفتح، أي: الحكم على أهْدى الفئتين وأعلى الجندين وأكرم الحزبين {فقد جاءكم} الحكم كما طلبتم، فقد نصر الله أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين، وهو محمد صلى الله عليه وسلم وحزبه، {وإن تنتهوا} عن الكفر ومعاداة الرسول، {فهو خيرٌ لكم}؛ لتضمنه سلامة الدارين وخير المنزلين، {وإن تعودوا} لمحاربته {نعد} لنصره، {ولن تغني}؛ تدفع {عنكم فئتكم}؛ جماعتكم {شيئاً} من المضار {ولو كثُرت} فئتكم، إذ العبرة بالنصرة لا بالكثره، {وإن الله مع المؤمنين} بالنصر والمعونة. ومن قرأ بالفتح؛ فعلى حذف الجار، أي: ولأن الله مع المؤمنين، وقيل: الخطاب للمؤمنين، والمعنى: إن تستنصروا فقد جاءكم النصر، وإن تنتهوا عن التكاسل في القتال، والرغبة عما يختاره الرسول، فهو خير لكم، وإن تعودوا إليه نعد عليكم الإنكار، أو تهييج العدو، ولن تغني، حينئذٍ عنكم كثرتكم؛ إذ لم يكن الله معكم بالنصر، فإنه مع الكاملين في إيمانهم. قال البيضاوي. الإشارة: إن تستفتحوا أيها المتوجهون، أي؛ تطلبوا الفتح من الله في معرفته، فقد جاءكم الفتح، حيث صح توجهكم وتركتم حظوظكم وعلائقكم، لأن البدايات مَجْلاَةُ النهايات، من وجد ثمرة عمله عاجلاً فهو علامة القبول آجلاً، وإن تنتهوا عن حظوظكم وعوائقكم فهو خير لكم، وبه يقرب فتْحُكُم، وإن تعودوا إليها نعد إليكم بالتأديب والإبعاد، ولن تغني عنكم جماعتكم شيئاً في دفع التأديب، أو البعد ولو كثرت، وأن الله مع المؤمنين الكاملين في الإيمان؛ بالنصر والرعاية.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)} يقول الحق جل جلاله: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله} فيما أمركم به ونهاكم عنه، {ورسولَه} فيما ندبكم إليه من الجهاد وغيره، {ولا تَولوا} أي: تُعرضوا عن الرسول {وأنتم تسمعون} القرآن يأمركم بالتمسك به، والاقتداء بهديه. والمراد بالآية: النهي عن الإعراض عن الرسول. وذكرُ طاعة الله إما هو للتوطئة والتنبيه على أن طاعة الله في طاعة الرسول، لقوله: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَد أَطَاعَ اللَّه} [النساء: 80]، ثم أكد النهي بقوله: {ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا} بآذاننا، كالكفرة والمنافقين، ادَّعَوْا السماع، {وهم لا يسمعون} سماعاً ينتفعون به، فكأنهم لا يسمعون رأساً. الإشارة: لما غلب عليه الصلاة والسلام بقي خلفاؤه في الظاهر والباطن؛ وهم العلماء الأتقياء، والعارفون الأصفياء. فمن تمسك بهم، واستمع لقولهم، فقد تمسك بالرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أعرض عنهم فقد أعرض عنه صلى الله عليه وسلم، فمن تمسك بما جاءت به العلماء، فاز بالشريعة المحمدية، وكان من الناجين الفائزين. ومن تمسك بالأولياء العارفين، واستمع لهم، وتبع إرشادهم، فاز بالحقيقة الربانية، وكان من المقربين. ومن سمع منهم الوعظ والتذكير، ثم صرفه عن نفسه إلى غيره، يصدق عليه القوله تعالى {ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون} وكان من شر الدواب.
{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} يقول الحق جل جلاله: {إن شر الدوابّ عند الله}؛ وهو كل من يدب على وجه الأرض، {الصمُّ} عن سماع الحق، {البُكمُ} عن النطق به، {الذين لا يعقلون} الحق ولا يعرفونه، عدهم من البهائم ثم جعلهم شرها؛ لإبطالهم ما مُيزوا به وفُضلوا لأجله، وهو استعمال العقل فيما ينفعهم من التفكر والاعتبار. قال ابن قتيبة: نزلت هذه الآية في بني عبد الدار، فإنهم جدوا في القتال مع المشركين، يعني يوم بدر، وحكمها عام. {ولو علِمَ الله فيهم خيراً}؛ سعادة كتبت لهم، أو انتفاعاً بالآيات، {لأسمعهُم} سماع تَفَهُّم، {ولو أسمعهم}، مع كونه قد علم الأخير فيهم، {لتولَّوا} عنه، ولم ينتفعوا به، وارتدوا بعد التصديق والقبول، {وهم مُّعرضون} عنه لعنادهم، وقيل: إنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يُحيي لهم قُصي بن كلاب، ويشهد له بالرسالة، حتى يسمعوا منه ذلك، فأنزل الله: {ولو عَلِمَ اللَّهُ فيهم خيراً لأسمعهم} كلامه بعد إحيائه، {ولو أسمعهم لتولوا وهم مُّعرضُون}، لسبق الشقاوة في حقهم. الإشارة: اعلم أن الأمر الذي شرف به الآدمي وفضل غيره هو معرفة خالقه، واستعمال العقل فيما يقربه إليه، وسماع الوعظ الذي يزجره عن غيه، فإذا فقد هذا كان كالبهائم أو أضل، ولله در ابن البنا، حيث يقول في مباحثه: وَاعْلَمْ أَنَّ عُصْبَةَ الجُهَّالِ *** بَهَائِمٌ في صُوَرِ الرِّجَال واعلم أيضاً أن بعض القلوب لا تقبل علم الحقائق، فأشغلها بعلم الشرائع، ولو علم فيها خيراً لأسمعها تلك الأسرار، ولو أسمعها، مع علمه بعدم قبولها، لتولت عنها وأعرضت؛ لضيق صدرها وعدم التفرغ لها.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)} يقول الحق جل جلاله: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله} أي: أجيبوا فيما دعاكم إليه، {وللرسول} فيما دلكم عليه من الطاعة والإحسان، {إذا دعاكم لما يُحييكم} من العلوم الدينية؛ فإنها حياة القلب، كما أن الجهل موته، أو {إذا دعاكم لما يُحييكم} الحياة الأبدية، في النعيم الدائم، من العقائد والأعمال، أو من الجهاد، فإنه سبب بقائكم؛ إذ تركتموه لغلبكم العدو وقتلكم، أو الشهادة، لقوله تعالى: {أَحيَاءُ عِندَ رَبِّهِم يُرزَقُونَ} [آل عمران: 169]، ووحد الضمير في قوله: {إذا دعاكم} باعتبار ما ذكر، أو لأن دعوة الله تُسمع من الرسول. وفي البخاري: أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا أبيّ بْنَ كَعْبٍ، وهو في الصَّلاة، فلم يجب، فلما فرغ أجاب، فقال له صلى الله عليه وسلم: «ما مَنَعَكَ أن تجيبني» فقال: كُنْتُ أُصلّي، فقال: «أَلمْ تَسْمَعَ قوله: {استَجِيتُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُول}» فاختلف فيه العلماء، فقيل لأن إجابته صلى الله عليه وسلم لا تقطع الصلاة، فيُجيب، ويبقى على صلاته، وقيل: إن دعاءه كان لأمر لا يقبل التأخير، وللمصلي أن يقطع الصلاة لمثله، كإنقاذ أعمى وشبهه. ثم قال تعالى: {واعلموا أنَّ الله يَحُولُ بين المرء وقلبه}؛ فينقله من الإيمان إلى الكفر، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن اليقين إلى الشك ومن الشك إلى اليقين، ومن الصفاء إلى الكدر، ومن الكدر إلى الصفاء. وقيل البيضاوي: هو تمثيل لغاية قربه من العبد؛ كقوله تعالى: {وَنَحنُ أَقرَبُ إِلَيهِ مِن حَبلِ الوَرِيدِ} [ق: 16]، وتنبيه على أنه مطلع على مكنونات القلوب، مما عسى أن يغفل عنها صاحبها، أو حث على المبادرة إلى إخلاص القلوب وتصفيتها، قبل أن يحول الله بينه وبين قلبه بالموت أو غيره، أو تصوير وتخييل لتملكه على العبد قلبه؛ فيفسخ عزائمه، ويغير مقاصده، ويحول بينه وبين الكفر، إن أراد سعادته، وبينه وبين الإيمان، إن قضى شقاوته. ه. {و} اعلموا أيضاً {أنه إليه تُحشرون}؛ فيجازيكم بأعمالكم وعقائدكم. الإشارة: قد جعل الله، من فضله ورحمته، في كل زمان وعصر، دعاة يدعون الناس إلى ما تحيا به قلوبهم، حتى تصلح لدخول حضرة محبوبهم، فهم خلفاء عن الله ورسوله، فمن استجاب لهم وصحبهم حيي قلبه، وتطهر سره ولبه، ومن تنكب عنهم ماتت روحه في أودية الخواطر والأوهام. وقوله تعالى: {واعلموا أن الله يَحُولُ بين المرء وقلبه}؛ حيلولة الحق تعالى بين المرء وهو تغطيته وحجبه عن شهود أسرار ذاته وأنوار صفاته، بالوقوف مع الحس، وشهود الفرق بلا جمع، ويعبر عنه أهل الفن بفَقْد القلب، فإذا قال أحدهم: فقدتُ قلبي، فمعناه: أنه رجع لشهود حسه ووجود نفسه، ووجدان القلب هو احتضاره بشهود معاني أسرار الذات وأنوار الصفات، فيغيب عن نفسه وحسه، وعن سائر الأكوان الحسية، وفقدان القلب يكون بسبب سوء الأدب، وقد يكون بلا سبب؛ اختباراً من الحق تعالى، هل يفزع إليه في فقدان أو يبقى مع حاله. وقد تكلم الغزالي على القلب فقال، في أول شرح عجائب القلب من الإحياء: إن المطيع بالحقيقة لله هو القلب، وهو العالم بالله، وهو الساعي إلى الله، والمتقرب إليه، المكاشف بما عند الله ولديه، وإنما الجوارح أتباع، والقلب هو المقبول عند الله، إذا سَلِمَ من غير الله، وهو المحجوب عن الله إذا صار مستغرقاً في غير الله وهو المطالب والمخاطب، وهو المعاتب والمعاقب، وهو الذي يسعد بالقرب من الله، فيفلح إذا زكاه، ويخيب ويشقى إذا دنسه ودساه. ثم قال: وهو الذي إذا عرفه الإنسان فقد عرف نفسه، وإذا عرف نفسه فقد عرف ربه، وإذا جهله فقد جهل نفسه، وإذا جهل نفسه، جهل ربه، ومن جهل قلبه فهو لغيره أجهل، وأكثر الناس جاهلون بقلوبهم وأنفسهم وقد حيل بينهم وبين أنفسهم، فإن الله يحول بين المرء وقلبه، وحيلولته بأن يمنعه عن مشاهدته ومراقبته، ومعرفة صفاته، وكيفية تقلبه بين أصبعين من أصابع الرحمن، إلى أعلى عليين، ويرتقي إلى عالم الملائكة المقربين، ومن لم يعرف قلبه ليراقبه ويراعيه، ويترصد ما يلوح من خزائن الملكوت عليه وفيه، فهو ممن قال الله تعالى فيهم: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُم أَنفُسَهُم} [الحشر: 19] الآية. ه. وقد أنشد من وجد قلبه، وعرف ربه، وغنى بما وجد، فقال: أَنَا القُرآنُ والسَّبْعُ المَثَانِي *** وروحُ الرُّوح لا روح الأَوَاني فؤادي عند معلوم مقيم *** تناجيه وعندكم لساني فَلاَ نَنْظُرْ بِطَرْفِكَ نَحْوَ جِسْمِي *** وعُدْ عن التنعيم الأواني فأَسْرارِي تراءت مبهمات *** مُسَتَّرَةً بأَنْوار المَعَاني فَمَنْ فَهِمَ الإشَارَةَ فليَصُنْها *** وإلاّ سوف يقتل بالسنانِ كَحَلاَّج المحبة إذْ تبدَّتْ *** له شمسُ الحقيقة بالتداني
{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)} قلت: دخلت النون في (لا تصيبن)؛ لأنه في معنى النهي، على حد قوله: {لاَ يَحطِمَنَّكُم سُلَيَمَان} [النمل: 18] انظر البيضاوي. يقول الحق جل جلاله: {واتقوا فتنة}، إن نزلت {لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة}، بل تعم الظالم وغيره، ثم يبعث الناس على نيتهم، وذلك كإقرار المنكَر بين أظهركم، والمداهنة في الأمر بالمعروف، واقتراف الكبائر، وظهور البدع، والتكاسل في الجهاد، وعن الفرائض، وغير ذلك من أنواع الذنوب، وفي الحديث: «لَتأْمُرُنَّ بالمَعْرُوفِ ولَتَنْهُونَّ عن المُنْكَرِ، أو لَيَعُمَّنَّكُمْ اللَّهُ بِعَذَابِهِ» أو كما قال صلى الله عليه وسلم. قالت عائشة رضي الله عنها: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم، إذا كثُر الخبث». قال القشيري. في معنى الآية: احذروا أن ترتكبوا زلَّةً توجب لكم عقوبة لا تخص مرتكبها، بل يعمُّ شؤمُها مَنْ تعاطاها ومن لم يتعاطاها. وغير المجرم لا يُؤخْذَ بجُرْم من أذنب، ولكن قد ينفرد واحدٌ بجُرم فيحمل أقوامٌ من المختصين بفاعل هذا الجُرْم، كأن يتعصبوا له إذا أُخِذَ بحكم ذلك الجرّم، فبعد ألا يكونوا ظالمين يصيرون ظالمين بمعاونتهم وتعصبهم لهذا الظالم؛ فتكون فتنة لا تختص بمن كان ظالماً في الحا ل، بل تصيب أيضاً ظالماً في المستقبل؛ بسبب تعصبه لهذا الظالم، ورضاه به. ه. وسيأتي تمامه في الإشارة. وحكى الطبري أنها نزلت في علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر وطلحة والزبير، وأن الفتنة ما جرى لهم يوم الجمل. ه. قال تعالى؛ {واعلموا أن الله شديد العقاب} لمن ارتكب معاصيه وتسبب في فتنة غيره. الإشارة: في القشيري، لما تكلم على تفسير الظاهر، قال: وأما من جهة الإشارة فإن العبدّ إذا باشر زّلّةٍ بنفسه عادت إلى القلب منها الفتنة، وهي العقوبة المعجلة، ونصيب النفس من الفتنة العقوبة، والقلبُ إذا حصلت منه فتنة، وهو همه بما لا يجوز، تَعدَّتْ فتنته إلى السر وهي الحُجْبَةُ. وكذلك المُقَدًّمُ في شأنه، إذا فعل ما لا يجوز، انقطعت البركات التي كانت تتعدى منه إلى مُتَّبعِيهِ وتلامذتِهِ، فكان انقطاع تلك البركات عنهم نصيبهم من الفتنة، وهم لم يعملوا ذنباً، ويقال: إن الأكابر إذا سكتوا عن التنكير على الأصاغر أصابتهم فتنة بتَرْكِهِم الإنكار عليهم فيما فعلوا من الإجرام. ثم قال: ويقال: إنًّ الزاهد إذا انحط إلى رخصة الشرع في اخذ الزيادة من الدنيا بما فوق الكفاية وإن كانت من وجه حلال تعدت فتنتهُ إلى من يتخرج على يديه من المبتدئين، فيحمله على ما رأى منه على الرغبة في الدنيا، وتَرْكِ التقلل، فيؤديه إلى الانهماك في أودية الغفلة في الأشغال الدنيوية، والعابد إذا جَنَحَ إلى سوء ترك الأوراد تعدَّى ذلك إلى ما كان ينشط في المجاهدة به، ويتوطَّن الكسل، ثم يحمله الفراغ وترك المجاهدة على متابعة الشهوات فيصير كما قيل: إن الشبابَ والفراغ والجدَةْ *** مفسدةٌ للمرء أي مفسده فهذا يكون نصيبهم من الفتنة، والعارف إذا رجع إلى ما فيه حَظَّ له، نَظَرَ إليه المريدُ فتتداخله فتنة فَتْرَةٌ فيما هو به من الصدق المنازلة، فيكون ذلك نصيبه من فتنة العارف. وبالجملة: إذا غفل المَلِكُ، وتَشَاغَلَ عن سياسة رعيته، تَعَطَّلَ الجندُ والرعية، وعَظُمَ فيهم الخَلَلُ والبَليَّة، وفي معناه أنشدوا: رُعَاتُك ضيَّعوا بالجهل منهم *** غُنَيْمَاتٍ فَساسَتْها ذِئابُ انتهى كلامه رضي الله عنه.
{وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)} يقول الحق جل جلاله: {واذكروا إذ أنتم قليل} أي؛ اذكروا هذه النعمة، حيث كنتم بمكة وأنتم قليل عَددكم مع كثرة عدوكم، {مستضعفون في الأرض} أي: أرض مكة، يستضعفكم قريش ويعذبونكم ويضيقون عليكم، {تخافون أن يتخطفكم الناسُ} أي: قريش، أو من عداهم، {فآواكم} إلى المدينة، وجعلها لكم مأوىً تتحصنون بها من أعدائكم، {وأَيَّدكم} أي: قواكم {بنصره} على الكفار، أو بمظاهرة الأنصار، أو بإمداد الملائكة يوم بدر، {ورزَقكم من الطيبات}؛ من الغنائم، {لعلكم تشكرون} هذه النعم. والخطاب للمهاجرين، وقيل: للعرب كافة؛ فإنهم كانوا أذلاء في أيدي فارس والروم، يخافون أن يتخطفهم الناس من كثرة الفتن، فكان القوي يأكل الضعيف منهم، فآواهم الله إلى الإسلام، فحصل بينهم الأمن والأمان، وأيدهم بنصره، حيث نصرهم على جميع الأديان، وأعزهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، ورزقهم من الطيبات، حيث فتح عليهم البلاد، وملكوا ملك فارس والروم، فملكوا ديارهم وأموالهم، ونكحوا نساءهم وبناتِهم، لعلهم يشكرون. الإشارة: التذكير بهذه النعمة يتوجه إلى خصوص هذه الأمة، وهم الفقراء المتوجهون إلى الله، فهم قليل في كل زمان، مستضعفون في كل أوان، حتى إذا تمكنوا وتهذبوا، وطهروا من البقايا منَّ عليهم بالنصر والعز والتأييد، كما وعدهم بقوله: {وَنُرِيدُ أًن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ فىِ الأَرضِ...} [القصص: 5] الآية، والغالب عليهم شكر هذه النعم، لَمَا خصهم به من كمال المعرفة. والله تعالى أعلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)} يقول الحق جل جلاله: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله}؛ بتضييع أوامره، وارتكاب نواهيه، {والرسول}؛ بمخالفة أمره وترك سنته، أو بالغلول في الغنائم، أو بأن تُبطنوا خلاف ما تظهرون. قيل: نزلت في أبي لبابة في قصة بَني قُرَيْظَةَ. روي أنه صلى الله عليه وسلم حاصرهم إِحْدَى وعشرين ليلةً، فَسَأَلوا الصُّلْحَ كما صَالَحَ إِخْوانَهُمْ بَني النَّضِير، عَلَى أَنْ يَصيروا إلى إخوانهم بأذْرِعَاتٍ وأريحا من الشَّام، فأبَى إلا أن يَنْزِلوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَأبَوْا وقَالوا: أرْسِلَ لنا أبا لُبَابَةَ، وكان مُنَاصِحاُ لهُمْ؛ لأنَّ عيَالهُ ومَالَهُ في أَيْدِيِهِمْ، فَبَعَثَه إليْهِمْ، فقالوا: ما تَرَى؟ هَلْ نَنْزِلُ على حُكْم سَعْدٍ؟ فأَشارَ إلى حَلْقِهِ، أنه الذَّبْحُ، فقال أبو لُبَابَة: فما زَالت قَدَمَاي حَتَّى عَلِمْتُ أَنِّي قَدْ خُنْتُ الله ورسُولَهُ، فنزل وشدَّ نَفْسَهُ إلى ساريةٍ في المسجد، وقال: والله لا أَذُوقُ طعاماُ ولا شَرَاباً حتى أمُوتَ، أوْ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيَّ، فَمَكَثَ سَبْعَةَ أيام حتى خَرَّ مَغْشِيّاً عَلَيهِ، ثم تَابَ اللَّهُ فَقِيلَ لَهُ؛ تِيب عَلَيْكَ فحُلّ نفسك، فقال: لاً والله أحلها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلَّه، فقال صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني، فجاء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فحلَّه، فقال: إِنَّ من تَمام تَوْبَتِي أن أَهْجُرَ دَارَ قَوْمِي الّتِي أصَبْتُ فيها الذَّنْب، وأن أنخَلِعَ من مَالِي، فقال صلى الله عليه وسلم: «يَجْزِيكَ الثُّلثُ أنْ تَتَصَّدَّقَ بِه». ثم قال تعالى: {وتخونوا أماناتكم} فيما بينكم، أو فيما أسر الرسول إليكم من السر فتفشوه، {وأنتم تعلمون} أن الخيانة ليست من شأن الكرام، بل هي من شأن اللئام، كما قال الشاعر: لا يَكتُمُ السرَّ إلا كُلُّ ذِي ثِقَةٍ *** فالسرُّ عِنْدَ خِيَارِ النَّاسِ مَكْتُومُ أو: وأنتم علماء تميزون الحسن من القبيح. {واعلموا أنما أموالكم وأولادُكُم فتنةٌ}؛ لأنه سبب الوقوع في الإثم والعقاب، أو محنة من الله ليبلوكم فيها، فلا يحملنكم حبهم على الخيانة، كما فعل أبو لبابة. {وأنَّ الله عنده أجرٌ عظيم} لمن آثر رضا الله ومحبته عليهم، وراعى حُدود الله فيهم، فعلّقوا هممكم بما يؤديكم إلى أجره العظيم، ورضاه العميم، حتى تفوزوا بالخير الجسيم. الإشارة: خيانة الله ورسوله تكون بإظهار الموافقة وإبطان المخالفة، بحيث يكون ظاهره حسن وباطنه قبيح، وهذا من أقبح الخيانة، وينخرط فيه إبطان الاعتراض على المشايخ وإظهار الوفاق، فمن فعل ذلك فسيف الشريعة فوق رأسه، إذا كان سالكاً غير مجذوب، لأن من أفشى سر الملك استحق القتل، وكان خائناً، ومن كان خائناً لا يُؤمن على السر، فهو حقيق أن ينزع منه، إن لم يقتل أو يتب، ولله در القائل: سَأَكْتُم عِلْمِي عَنْ ذَوِي الجَهْلِ طَاقَتِي *** وَلاَ أَنْثُرُ الدُّر النفيس على الْبَهَمْ فإنْ قَدَّرَ اللَّهُ الكريمُ بلُطْفِهِ *** وَلاَ أَهلاً للعلوم وللحِكَمْ بَذَلْتُ عُلومِي واسْتَنَفَدْتُ عُلُومَهُم *** وإِلاّ فمخزونٌ لديَّ ومُكْتَتَمْ
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)} يقول الحق جل جلاله: {يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله}، كما أمركم، {يجعل لكم فرقاناً}؛ نوراً في قلوبكم، تُفرقون به بين الحق والباطل، والحسن والقبيح. قال ابن جزي: وذلك دليل على أن التقوى تُنور القلب، وتشرح الصدر، وتزيد في العلم والمعرفة. ه. أو: نصراً يُفرق بين المحق والمبطل؛ بإعزاز المؤمنين وإذلال الكافرين، أو مخرجاً من الشبهات، أو نجاة مما تحذرون في الدارين من المكروهات، أو ظهوراً يشهر أمركم ويثبت صِيتَكم، من قولهم: فرقان الصبح، أي نوره، {ويُكفِّر عنكم سيئاتكم} أي: يسترها، فلا يفضحكم يوم القيامة، {ويغفرْ لكم}؛ يتجاوز عن مساوئكم، أو يكفر صغائركم ويغفر كبائركم، أو يكفر ما تقدم ويغفر ما تأخر، {والله ذوالفضل العظيم}، ففضله أعظم من كل ذنب، وفيه تنبيه على أن ما وعده لهم على التقوى تفضل منه وإحسان، لا أن تقواهم أو جبت ذلك عليه، كالسيد إذا ما وعده عبده أن يعطيه شيئاً في مقابلة عمل امره به، مع أنه واجب عليه لا محيد له عند. والله تعالى أعلم. الإشارة: الفرقان الذي يلقيه الله في قلوب المتقين من المتوجهين هو نور الواردات الإلهية، التي ترد على القلوب من حضرة الغيوب، وهي ثلاثة أقسام: وارد الانتباه: وهو نور يفرق به بين الغفلة واليقظة، وبين البطالة والنهوض إلى الطاعة، فيترك غفلته وهواه، وينهض إلى مولاه، ووارد الإقبال: وهو نور يفرق به بين الوقوف مع ظلمة الحجاب وبين السير إلى شهود الأحباب، ووارد الوصال: وهو نور يفرق به بين ظلمة الأكوان، ونور الشهود، أو بين ظلمة سحاب الأثر وشهود شمس العرفان. وإلى هذه الواردات الثلاثة أشار في الحكم بقوله: «إنما أورد عليك الوارد لتكون به عليه وارداً، أورد عليك الوارد ليسلمك من يد الأغيار، ويحررك من رق الآثار، أورد عليك الوارد ليخرجك من سجن وجودك إلى فضاء شهودك».
{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)} يقول الحق جل جلاله: {و} اذكر، يا محمد، نعمة الله عليك بحفظه ورعايته لك {إذ يمكُر بك الذين كفروا} من قريش، حين اجتمعوا في دار الندوة {ليُثْبِتُوكَ} أي: يحبسوك في الوثاق والسجن {أو يقتلوك} بسيوفهم، {أو يخرجوك} من مكة. وذلك أنهم لما سمعوا بإسلام الأنصار ومبايعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، خافوا على أنفسهم، واجتمعوا في دار الندوة متشاورين في أمره، فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ، وقال: أنا من نجد، سمعت اجتماعكم فأردت أن أحضركم، ولن تعدموا مني رأياً ونصحاً، فقال أبو البحتري: أرى أن تحبسوه في بيت، وتسدوا منافذه، غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه فيها، حتى يموت، فقال الشيخ: بئس الرأي، يأتيكم من يقاتلكم من قومه، ويخلصه من أيديكم. فقال هشام بن عمرو: أرى أن تحملوه على جمل فتخرجوه من أرضكم، فلا يضركم ما صنع، فقال الشيخ: بئس الرأي، يُفسد قوماً غيركم ويقاتلكم بهم. فقال أبو جهل: أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاماً، وتعطوه سيفاً، فتضربوه ضربة واحدة، فيتفرق دمه في القبائل، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم، فإن طلبوا العَقَلَ عقلناه. فقال الشيخ: صدق هذا الفتى، فتفرقوا على رأيه، فأتى جبريلُ النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر، وأمره بالهجرة فبيت عليّاً رضي الله عنه على مضجعه، وخرج مع أبي بكر إلى الغار، ثم سافر مهاجراً إلى المدينة. قال تعالى: {ويمكرون ويمكر اللَّهُ}؛ برد مكرهم عليهم، أو مجازاتهم عليه، أو بمعاملة الماكرين معهم، بأن أخرجهم إلى بدر، وقلل المسلمين في أعينهم، حتى تجرأوا على قتالهم، فقُتِلوا وأُسِروا، {والله خيرُ الماكرين}؛ إذ لا يؤبه بمكرهم دون مكره، وإسناد أمثال هذا مما يحسن للمزاوجة، ولا يجوز إطلاقها ابتداء؛ لما فيه من إيهام الذم. قاله البيضاوي. الإشارة: وإذ يمكر بك أيها القلب الذين كفروا، وهم القواطع من العلائق والحظوظ والشهوات، ليحبسوك في سجن الأكوان، مسجوناً بمحيطاتك، محصوراً في هيكل ذاتك، أو يقتلوك بالغفلة والجهل وتوارد الخواطر والأوهام، أو يُخرجوك من حضرة ربك إلى شهود نفسك، أو من صحبة العارفين إلى مخالطة الغافلين، أو من حصن طاعته إلى محل الهلاك من موطن معصيته، أو من دائرة الإسلام إلى الزيغ والإلحاد، عائذاً بالله من المحن، والله خير الماكرين، فيرد كيد الماكرين، وينصر أولياءه المتوجهين والواصلين، وبالله التوفيق.
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)} قلت: «إذا»: ظرفية شرطية، خافضة لشرطها، معمولة لجوابها، أي قالوا وقت تلاوة الآيات: لو نشاء... لخ. يقول الحق جل جلاله: {وإذا تُتلى عليهم آياتنا} القرآنية {قالوا قد سمعنا} ما تتلوه علينا {لو نشاء لقلنا مثل هذا إنْ هذا إلا أساطير الأولين} أي: اخبارهم المسطورة أو أكاذيبهم المختلقة. قال البيضاوي؛ وهذا قول النَّضْر بن الحارث، وإسناده إلى الجمع إسناد ما فعله رئيس القوم إليهم، فإنه كان قاصهم، أي: يقص عليهم أخبار فارس والروم، فإذا سمع القرآن يقص أخبار الأنبياء قال: لو شئت لقلتُ مثل هذا، أو قول الذين ائتمروا في شأنه: وهذا غاية مكائدهم، وفرط عنادهم، إذ لو استطاعوا ذلك لسارعوا إليه، فما منعهم أن يشاؤوا وقد تحداهم وقرعهم بالعجز عشر سنين، ثم قارعهم بالسيف، فلم يعارضوا، مع أنفتهم وفرط استنكافهم أن يغلَبوا، خصوصاً في باب البيان؟ ه. بالمعنى. الإشارة: هذه المقالة بقيت سُنَّةً في أهل الإنكار على أهل الخصوصية، إذا سمعوا منهم علوماً لدنية، أو أسراراً ربانية، أو حِكماً قدسية، قالوا: لو نشاء لقلنا مثل هذا، وهم لا يقدرون على كلمة واحدة من تلك الأسرار، وهذا الغالب على المعاصرين لأهل الخصوصية، دون من تأخر عنهم، فإنهم مغرورون عنده {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحوِيلا} [فاطر: 43].
{وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)} قلت: «الحق»: خبر كان. يقول الحق جل جلاله: {و} اذكر {إذ قالوا اللهم إن كان هذا} الذي أتى به محمد {هو الحقَّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السماءِ}؛ كأصحاب لوط، {أو ائتنا بعذاب أليم}، قيل: القائل هذا هو النَّضْر بن الحارث، وهو أبلغ في الجحود. رُوي أنه لما قال: {إن هذا أساطير الأولين}، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ويلك إنه كلام الله» فقال هذه المقالة. والذي في صحيحي البخاري ومسلم: أن القائل هو أبو جهل، وقيل: سائر قريش لمّا كذبوا الني صلى الله عليه وسلم دعوا على أنفسهم، زيادة في تكذيبهم وعتوهم. وقال الزمخشري: ليس بدعاء، وإنما هو جحود، أي: إن كان هو الحق فأمطر علينا، لكنه ليس بحق فلا تستوجب عقاباً. بالمعنى. الإشارة: قد وقعت هذه المقالة لبعض المنكرين على الأولياء، فعجلت عقوبته، ولعل ذلك الولي لم تتسع دائرة حلمه ومعرفته، وإلا لكان على قدم نبيه صلى الله عليه وسلم.
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)} يقول الحق جل جلاله: {وما كان الله ليُعذبهم وأنت} موجود {فيهم}، ونازل بين أظهرهم، وقد جعلتلك رحمة للعالمين، خصوصاً عشيرتك الأقربين، {وما كان الله مُعَذِّبَهُم وهم يستغفرون} قيل: كانوا يقولون: غفرانك اللهم، فلما تركوه عُذبوا يوم بدر، وقيل: وفيهم من يستغفر، وهو من بقي فيهم من المؤمنين، فلما هاجروا كلهم عُذبوا، وقيل: على الفرض والتقدير، أي: ما كان الله ليعذبهم لو آمنوا واستغفروا. قال بعض السلف: كان لنا أمانان من العذاب: النبي صلى الله عليه وسلم والاستغفار، فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم ذهب الأمان الواحد وبقي الآخر، والمقصود من الآية: بيان ما كان الموجب لإمهاله لهم والتوقف على إجابة دعائهم، وهو وجوده صلى الله عليه وسلم أو من يستغفر فيهم. ثم قال تعالى: {وما لهم ألا يعذبهم الله} أي: وأيُّ شيء يمنع من عذابهم؟ وكيف لا يعذبون {وهم يصُدُّون} الناس {عن المسجد الحرام} ؟ أي: يمنعُون المتقين من المسجد الحرام، ويصدون رسوله عن الوصول إليه. {وما كانوا أولياءَهُ} المستحقين لولايته مع شركهم وكفرهم، وهو ردٌّ لما كانوا يقولون: نحن ولاة البيت الحرام؛ فنصد من نشاء ونُدخل من نشاء. قال تعالى: {إنْ أولياؤُه إلا المتقون} أي: ما المستحقون لولايته إلا المتقون، الذين يتقون الشرك والمعاصي ولا يعبدون فيه إلا الله، ويعظمونه، حق تعظيمه. {ولكنَّ أكثرهم لا يعلمون} أن لا ولاية لهم عليه، وإنما الولاية لأهل الإيمان، وكأنه نبه بالأكثر على أن منهم من يعلم ذلك ويعاند أو أراد به الكل، كما يراد بالقلة العدم. قاله البيضاوي. الإشارة: قد جعل الله رسوله صلى الله عليه وسلم أماناً لأمته ما دام حياً، فلما مات صلى الله عليه وسلم بقيت سنته أماناً لأمته، فإذا أُميتت سنته أتاهم ما يوعدون من البلاء والفتن، وكذلك خواص خلفائه، وهم العارفون الكبار، فوجودهم أمان للناس. فقد قالوا: إن الإقليم الذي يكون فيه القطب لا يصيبه قحط ولا بلاء، ولا هرج ولا فتن؛ لأنه أمان لذلك الإقليم، خلافة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم.
{وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)} يقول الحق جل جلاله: {وما كان صلاتهم} التي يصلونها في بيت الله الحرام، ويسمونها صلاة، أو ما يضعون موضعها، {إلا مكاءً} أي: تصفيراً بالفم، كما يفعله الرعاة، {وتصديةً} أي: تصفيقاً باليد، الذي هو من شأن النساء، مأخوذ من الصدى، وهو صوت الجبال والجدران. قال ابن جزي: كانوا يفعلون ذلك إذا صلى المسلمون، ليخلطوا عليهم صلاتهم. وقال البيضاوي: رُوي أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة، الرجال والنساء، مشبكين بين أصابعهم، يصفرون فيها ويصفقون، وقيل: كانوا يفعلون ذلك إذا أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يُصلي، يخلطون عليه، ويرون أنهم يصلون أيضاً، ومساق الآية: تقرير استحقاقهم العذاب المتقدم في قوله: {وما لهم ألا يعذبهم الله}، أو عدم ولايتهم للمسجد، فإنها لا تليق بمن هذه صلاته. ه. قال تعالى: {فذوقوا العذاب} الذي طلبتم، وهو القتل والأسر يوم بدر، فاللام للعهد، والمعهود: (أو ائتنا بعذاب أليم)، أو عذاب الآخرة، {بما كنتم تكفرون} أي: بسبب كفركم اعتقاداً وعملاً. الإشارة: وما كان صلاة أهل الغفلة عند بيت قلوبهم إلا ملعبة للخواطر والهواجس، وتصفيقاً للوسواس والشيطان، وذلك لخراب بواطنهم من النور، حتى سكنتها الشياطين واستحوذت عليها، والعياذ بالله، فيقال لهم: ذوقوا عذاب الحجاب والقطيعة، بما كنتم تكفرون بطريق الخصوص وتبعدون عنهم. والله تعالى أعلم.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)} يقول الحق جل جلاله: {إنَّ الذين كفروا يُنفقون أموالهم ليصدوا} بذلك {عن سبيلِ الله}، ويُحاربون الله ورسوله. قيل: نزلت في أصحاب العير؛ فإنه لما أصيب قريش ببدر قيل لهم: أعينوا بهذا المال على حرب محمد، لعلنا ندرك منه ثأرنا، ففعلوا، وقيل: في المطْعمين يوم بدر، وكانوا اثني عشر رجلاً من قريش، يطعم كل واحد منهم، كل يوم، عشر جزر، وقيل: في أبي سفيان، استأجر ليوم أُحد ألفين من العرب، وأنفق عليهم أربعين أوقية. قال تعالى: {فسينفقونها} بتمامها، {ثم تكون عليهم حسرةً} يتأسفون على إنفاقها من غير فائدة، فيصير إنفاقها ندماً وغمَّاَ، لفواتها من غير حصول المقصود، وجعل ذاتها تصير حسرة، وهي عاقبة إنفاقها؛ مبالغةً. قال البيضاوي: ولعل الأول إخبار عن إنفاقهم في تلك الحال، وهو إنفاق بدر، والثاني عن إنفاقها فيما يُستقبل، وهو إنفاق غزوة أحد، ويحتمل أن يراد بهما واحد، على أن مساق الأول لبيان غرض الإنفاق، ومساق الثاني لبيان عاقبته، وهو لم يقع بعد. ه. قلت: وهذا الأخير هو الأحسن. ثم ذكر وعيدهم فقال: {والذين كفروا} أي؛ الذين ثبتوا على الكفر منهم؛ إذ أسلم بعضهم، {إلى جهنم يُحشرون}؛ يُضمون ويُساقون، {ليميزَ الله الخبيثَ من الطّيبِ}؛ الكافرين من المؤمنين، أو الفساد من الصلاح، أو ما أنفقه المشركون في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أنفقه المسلمون في نصرته، أي: حشرهم إليه ليفرق بين الخبيث والطيب، {يجعل الخبيثَ بعضَهُ على بعض فيَركُمَه} أي: يجمعه، أو يضم بعضه إلى بعض، حتى يتراكمون من فرط ازدحامهم، {فيجعَلهُ في جهنم} كله، {أولئك هم الخاسرون} الكاملون في الخسران، لأنهم خسروا أنفسهم وأموالهم، والإشارة تعود على الخبيث؛ لأنه بمعنى الفريق الخبيث، أو على المنفقين ليصدوا عن سبيل الله. والله تعالى أعلم. الإشارة: كل من أنفق ماله في لهو الدنيا، وفرجتها، من غير قصدٍ حسن، بل لمجرد الحظ والهوى، تكون عليه حسرة وندامة، تنقضي لذاته وتبقى تبعاته، وهو من كفران نعمة المال، فهو معرض للزوال، وإن بقي فهو استدراج، وعلامة إنفاقه في الهوى: أنه أتاه فقير يسأله درهماً منعه، وينفق في النزهة والفرجة الثلاثين والأربعين، فهذا يكون إنفاقه حسرة عليه، والعياذ بالله.
{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (38)} يقول الحق جل جلاله: {قل للذين كفروا}؛ كقريش وغيرهم: {إن ينتهوا} عن الكفر ومعاداة الرسول بالدخول في الإسلام، {يغفر لهم ما قد سلف} من ذنوبهم، ولو عظمت، {وإن يعودوا} إلى الكفر وقتاله {فقد مضت سُنَّتُ الأولين} أي: مضت عادتي مع الذين تحزبُوا على الأنبياء بالتدمير والهلاك، كعاد وثمود وأضرابهم، وكما فعل بهم يوم بدر، فليتوقعوا مثل ذلك، وهو تهديد وتخويف. الإشارة: قل للمنهمكين في الذنوب والمعاصي: لا تقنطوا من رحمتي، فإني لا يتعاظمني ذنب أغفره، فإن تنتهوا أغفر لكم ما قد سلف، وأنشدوا: يستوجب العَفْوَ الفتى، إذا اعترف *** بما جَنى، وما أتى، وما اقْتَرفْ لقوله: (قُل للذين كفروا *** إنْ ينتهوا يُغفر لهم ما قد سلف) وللشافعي رضي الله عنه: فَلَمَّا قَسَا قَلْبِي وَضَاقَتْ مَذَاهِبِي *** جَعَلْتُ الرَّجَا مِنَّي لعَفْوكَ سُلما تَعَاظَمَنِي ذَنْبِي، فَلَمّا قَرَنْتهُ *** بعَفْوِكَ رَبِّي، كانَ عَفْوُكَ أَعْظَمَا فَمَا زِلْتَ ذَا جُودِ وَفَضْلٍ وَمِنَّةٍ *** تَجُودُ وتَعْفُو مِنَّهً وتَكَرُّمَا فإن لم ينته المنهمك في الهوى فقد مضت سُنة الله فيه؛ بالطرد والإبعاد، ويخاف عليه سوء الختام، والعياذ بالله.
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)} يقول الحق جل جلاله: وقاتلوا من لم ينته عن كفره {حتى لا تكونَ فتنة}، أي: حتى لا يوجد منهم شرك، فهو كقوله عليه السلام: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ حَتَّى يَقُولُوا: لا إله إلاَّ الله». {ويكون الدين كلُّه لله} بحيث تضمحل الأديان الباطلة ويظهر الدين الحق، {فإن انتهوا} عن الكفر وأسلموا، {فإن الله بما يعملون بصير}؛ فيجازيهم على انتهائهم، وقرأ يعقوب بتاء الخطاب؛ على معنى: {فإن الله بما تعملون} يا معشر المسلمين؛ من الجهاد، والدعوة إلى الإسلام، والإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان، {بصير} فيجازيهم، ويضاعف أجوركم بمن أسلم على أيديكم. {وإن تَولَّوا}، ولم ينتهوا عن كفرهم، {فاعلموا أن الله مولاكم}؛ ناصركم، فثقوا به ولا تبالوا بمعاداتهم، {نِعْمَ المولى}؛ فلا يضيع من تولاه، {ونِعْمَ النصير}؛ فلا يغلب من نصره. الإشارة: يُؤمر المريد بجهاد القواطع والعلائق والخواطر، حتى لا يبقى في قلبه فتنة بشيء من الحس، ويكون القلب كله لله، فإن انتهت القواطع فإن الله بصير به، يجازيه على جهاده، ومجازاته: إدخال الحضرة المقدسة، مع المقربين، وإن لم ينته فليستمر على مجاهداته وانقطاعه إلى ربه، وليستنصر به في مجاهدته، فإن الله مولاه وناصره، وهو نعم المولى ونعم النصير.
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)} قلت: (فأن لله): مبتدأ حُذف خبره، أي: فكون خمسة لله ثابت، أو خبر، أي: فالواجب كون خمسه لله. يقول الحق جل جلاله: {واعلموا أنما غَنِمتُم من شيء} مما أخذتموه من الكفار؛ قهراً بالقتال، لا الذي هربوا عنه بلا قتال، فكله للإمام فَيء، يأخذ حاجته ويصرف باقيه في مصالح المسلمين، ولا الذي طرحه العدو خوف الغرق، فلواجده، بلا تخميس، وكذا ما أخذه من كان ببلاد العرب على وجه التلصيص، فأما ما أخذه بالقتال: فللَّه {خُمُسَه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل}؛ الجمهور على أن ذكر الله للتعظيم كقوله: {واللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرضُوه} [التوبة: 62]، وإنما المراد: قسم الخمس على الخمسة الباقية. واختلف العلماء في الخمسة، فقال مالك: الرأي للإمام، يلحقه ببيت الفَيء، ويعطي من ذلك البيت لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رآه، كما يعطي منه اليتامى والمساكين، وغيرهم، وإنما ذكر من ذكر على جهة التنبيه عليهم، لأنهم من أهم ما يدفع إليهم. وقال الشافعي: يعطي للخمسة المعطوفة على (الله)، ولا يجعل لله سهماً مختصاً، وإنما ذكر ابتداء تعظيماً، لأن الكل ملكه، وسهم الرسول يأخذه الإمام، يصرفه في المصالح، فيعطي للأربعة المعطوفة على الرسول، ويفضل أهل الحاجة. قال مالك: لا يجب التعميم، فله أن يعطي الأحوج، وإن حرم غيره، ومبني الخلاف: هل اللام لبيان المصرف أو للاستحقاق، كما في آية الزكاة. وقال أبو حنيفة: على ثلاثة أسهم، لليتامى والمساكين وابن السبيل، قال: وسقط الرسول وذوو القربى بوفاته عليه الصلاة والسلام. وقال أبو العالية: يقسم على ستةٍ، أخذاً بظاهر الآية، ويصرف سهم الله إلى الكعبة، وسهم الرسول في مصالح المسلمين، وسهم ذوي القربى لأهل البيت الذين لا تحل لهم الزكاة، ثم يعطى سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل. قال البيضاوي: وذوو القربى: بنو هاشم، وبنو المطلب، لِمَا رُوي: أنه صلى الله عليه وسلم قسم سهم ذوي القربى عليهما، فقال عثمان وجبير بن مطعم: هؤُلاء إِخْوانك بَنُو هِاشِمٍ لا ننكر فَضْلَهُمْ لمَكَانِك الذي جَعَلَك اللَّهُ مِنْهُمْ، أرأيت إخواننا من بَني المُطَّلِب، أعْطَيْتَهُمْ وحَرَمْتَنَا، وإنَّما نَحنُ وَهُمْ بمَنْزِلَةٍ وَاحِدةٍ؟ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: «إِنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونَا في جَاهِلِيَّةٍ ولا إٍسْلاَم» وشَبَّكّ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. وقيل: بنو هاشم وحدهم. قلت: وهو مشهور مذهب مالك وقيل: جميع قريش. ه. ثم قال تعالى: {إنْ كنتم آمنتم بالله}، أي: إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أنه جعل الخمس لهؤلاء، فسلموه إليه، واقنعوا بالأخماس الأربعة، {وما} وكذا إن كنتم آمنتم بما {أنزلنا على عبدنا} محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن، في شأن الأنفال، ومن النصر والملائكة، {يوم الفرقان}؛ يوم بدر، فإنه فرّق فيه بين الحق والباطل، {يوم التقى الجمعان}؛ المسلمون والكفار، {والله على كل شيء قدير}؛ فيقدر على نصر القليل على الكثير، بالإمداد بالملائكة، وبلا إمداد، ولكن حكمته اقتضت وجود الأسباب والوسائط، والله حكيم عليم. الإشارة: واعلموا أنما غنمتم من شيء من العلوم اللدنية، والمواهب القدسية، والأسرار الربانية، بعد مجاهدة العلائق والعوائق، حتى صار دين القلب كله لله، فللَّه خمسه؛ فناء، وللرسول؛ بقاءً، ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل؛ تعظيماً وآداباً. يعني: أن العلم بالله يقتضي بهذه الوظائف: الفناء في الله، بالغيبة عما سواه، وشهود الداعي الأعظم، وهو رسول الله، والأدب مع عباد الله، ليتحقق الأدب مع الله. ثم تعالى أعلم بأسرار كتابه.
|